فخ الأسس التقليدية: متى يصبح إعداد الممثل “أداءً قديماً”؟

ليست الكاميرا من تكشف الممثل… بل الصدق الذي يهرب منه.”

هناك لحظة خفية يعيشها كل ممثل حين يقف أمام العدسة للمرة الأولى؛ لحظة يتقاطع فيها الصدق مع الخوف، والإحساس مع الرغبة في الإبهار. من تلك اللحظة يبدأ الامتحان الحقيقي لكل ما تعلّمه من “دورات تمثيل” و“كورسات التمثيل” التي وُعِدَ فيها بأن الأداء قابل للتعلّم كما تُتعلّم اللغة أو الطبخ أو العزف. لكن الحقيقة أن التمثيل أمام الكاميرا لا يُختزل في التقنية وحدها، بل في القدرة على نسيان التقنية لحظة الفعل.

الخطأ الأكبر الذي يُرتكب في كثير من “دورات التمثيل” هو خلط المسرح بالسينما، وكأن الكاميرا مجرد جمهور يجلس في الصف الأول. هذا الخلط يخلق أداءً مسرحيا ً أمام عدسة حساسة، لا ترحم المبالغة ولا تُكافئ الصراخ. فالممثل المسرحي يُدرّب جسده على الامتداد، وصوته على الوصول إلى آخر مقعد في القاعة، بينما الممثل السينمائي يتعلم كيف يهمس دون أن يفقد حضوره، وكيف يُفكّر بصمت دون أن يتكلم.

في كثير من “كورسات التمثيل” يُطلب من الممثل أن يتقن التعبير الجسدي أولاً، أن يعرف كيف يصرخ، كيف يبكي، كيف يضحك، وكيف يبدّل ملامحه بسرعة. ولكنهم نادرا ً ما يسألونه: لماذا؟
ما الذي يدفع شخصا ً للبكاء؟ ما الذي يُطفئ الصوت في الحنجرة ويترك الدموع وحدها تتكلم؟

حين يغيب هذا السؤال، يتحول الأداء إلى حرفة، والمشهد إلى تمرين.
أشاهد أحيانا ً تسجيلات طلاب من تلك الدورات، وأدرك أنهم يجتهدون، يتقنون التقليد، يقلّدون “مشهداً سينمائيا ً” لا يخصهم، يبحثون عن لحظة انفعال تشبه لحظة ممثل آخر. لكن في كل تلك المحاولات، هناك شيء مفقود… الشرارة الأولى التي تجعل الكاميرا تصدّق.

في السينما، الممثل لا يُدرّب على أن يكون مؤدياً، بل أن يكون حاضراً. الكاميرا لا تريدك أن تمثل لها، بل أن تكون أمامها. إنها ترى ما وراء الجلد، تلتقط التردد بين النبضتين، وتُكذّب كل لحظة لم تأتِ من الداخل. ولهذا فإن إعداد الممثل ليس عملية شحن بالتقنيات، بل عملية تفريغ مما تراكم عليه من “حيل الأداء” التي تعلمها في ورش متكررة لا تعرف سوى الصراخ أمام الكاميرا.

في عالم السينما، الممثل الحقيقي هو من يصغي قبل أن يتكلم.
كل حركة، كل نفس، كل رمشة عين هي حوار مع الصمت.
وهنا يظهر الفارق بين من يتعلم التمثيل كـ“دور” ومن يتعلمه كـ“حضور”.

بعض دورات التمثيل تدرّب الممثل على كيفية السيطرة على جسده، لكنها لا تدرّبه على كيفية فقدان السيطرة بطريقة صادقة. تعلّمه أن يقف بثقة، لكنها لا تعلّمه كيف يهتزّ حين يحتاج الدور إلى هشاشة. هذه التفاصيل الصغيرة هي ما تصنع الفرق بين ممثل يتقن الأداء، وممثل يتقن الإحساس.

حين أعمل مع ممثل جديد في مشروع سينمائي، لا أطلب منه أن “يُظهر مشاعره” بل أن يتركها تحدث. الكاميرا، بخلاف المسرح، ليست متفرّجاً بعيداً، بل شريكاً متطفّلاً يدخل إلى العصب مباشرة. ومن هنا، فإن إعداد الممثل للسينما يجب أن يكون أكثر قرباً من علم النفس منه من تقنيات المسرح، وأقرب إلى الإصغاء منه إلى الأداء.

هنا تكمن أزمة “كورسات التمثيل” المنتشرة اليوم — تلك التي تُقدَّم كـ“تجربة فيلم قصيرة” أو “دورة تمثيل مجانية” لجذب المهتمين — إذ تختصر التمثيل في مجموعة مشاهد مصوّرة أمام عدسة محمولة وهتاف مدرب يصرخ “أعد اللقطة!”.

بينما الهدف الحقيقي يجب أن يكون إعداد ممثل قادر على تقديم مشهد Showreel احترافي، يُظهر وعيه بالمشاعر لا فقط قدرته على تزييفها.

حين يتقن الممثل الصدق… لا يعود بحاجة إلى التمثيل

نحن نعيش زمناً يتغلب فيه الشكل على الجوهر. الممثل اليوم محاط بدورات ودروس وورش ومقاطع على الإنترنت تُقدّم له “قوالب أداء” سريعة الجاهزية، تُشبه الوجبات السريعة التي تشبعك لحظةً وتتركك جائعاً بعدها بساعة. لكن التمثيل ليس طهواً بمقادير ثابتة، بل تجربة بحث طويلة في الذات.

لقد أصبح بعض المدربين يروّجون لفكرة أن الموهبة وحدها لا تكفي، وأن عليك أن تدفع لتصبح ممثلاً. لكن الحقيقة المؤلمة أن كثيراً مما يُدرَّس اليوم هو إعادة إنتاج لأساليب ماضية فقدت صدقها. إعداد الممثل ليس أن يتقن أدوات التمثيل فقط، بل أن يعرف متى يتخلى عنها.

إن التمثيل أمام الكاميرا لا يحتاج “عرضاً” بل حياة. الكاميرا ترفض التمثيل المجرّد لأنها لا تهتم بالصوت العالي ولا بالحركة المدهشة، بل باللحظة الصادقة التي تمرّ دون وعي.
أذكر مخرجا ً عظيمًا قال ذات مرة: كلما نسيت أنك تمثل، أصبحت أقرب إلى الحقيقة.”
وهنا يكمن الفارق بين من يُدرَّب على الأداء، ومن يُهيّأ ليكون ممثلاً حقيقياً.

من واجب كل فنان يدخل هذا المجال أن يميّز بين “التقنيات التي تخدم الصدق” و“التقنيات التي تزيّف الإحساس”. وأن يبحث عن دورات تمثيل تُنصت إليه قبل أن تُلقّنه، وتحرّره من الخوف قبل أن تُحمّله دروساً إضافية.

في النهاية، ليس إعداد الممثل مشروعاً تجارياً، بل مشروع وعي.
وحين يصل الممثل إلى تلك النقطة التي يتقن فيها الصدق…
لن يكون بحاجة إلى أن “يُمثّل” بعد اليوم.

المخرج : أنمار السيد