في عالم ٍ مغمور بالظلال، حيث الحقيقة تتسلل مثل أفعى تزحف ببطئ تحت طبقات الصمت، يبدأ فيلم Reptile كأنه وعدٌ بالوضوح، لكنه ينتهي كمرثية ٍ للحقيقة نفسها. فـــ Reptile ليس فيلما ً عن جريمة بقدر ما هو عن ذلك الخيط الرقيق الذي يفصل بين العدالة والوهم.
منذ المشهد الأول شعرت أن المخرج لا يريدنا أن نرى الحدث، بل أن نُصاب بعدواه. فالضوء لا يضيء الوجوه بل يفضحها، والموسيقى لا تشرح الإحساس، بل تتركه معلقا ً بين النبض والجمود. كأن الصورة نفسها تمارس نوعاً من التحقيق ضدنا، تسألنا دون كلام: إلى أي مدى نحن متواطئون مع ما نراه؟
ما شدّني في هذا العمل هو صدقه البصري أكثر من حبكته. فغرانت سينغر، الذي ينتقل من عالم الفيديو كليب إلى الإخراج السينمائي، لا يتعامل مع الكادر كإطار جمالي فقط، بل كفخٍّ معنوي. فكل لقطة لديه مشحونة بوعيٍ أخلاقي مضمر.
هذه الدقة في بناء الصمت تجعل الفيلم أقرب إلى تشريحٍ بطيءٍ للوعي الجمعي، حيث كل شخصية تجرّ خلفها جلداً سابقاً، وكل تفصيل في المشهد يوحي بأن هناك حياةً أخرى تحت السطح.

أكثر ما يثير الإعجاب أن فيلم Reptile لا يسقط في فخ الاستعراض. الإخراج متماسك وبارد، لكنه نابض بما يكفي ليمنحك شعوراً بعدم الأمان. وهناك شبه واضح بين أسلوبه وبين أعمال ديفيد فينشر، خصوصاً Zodiac وSe7en، لكنه يحتفظ بصوته الخاص: إيقاع أكثر انعزالاً، وفضاء بصري يميل إلى الغموض الترابي، كما لو أن العدالة نُسجت من الغبار. لا يطلب منك الفيلم أن تتفاعل، بل أن تراقب، أن تشكّ. وأظن أن هذه هي أعظم أدواته: جعل المشاهد شريكاً في الاشتباه.
ومن جانب آخر فأن الممثل بنيسيو ديل تورو، الذي شارك في كتابة السيناريو أيضاً، قدم أداءً يتجاوز الشخصية. ملامحه تكتب أكثر مما يقول، وصمته يحمل ما هو أعمق من أي اعتراف. في عينيه ترى رجلاً يطارد الجريمة خارج نفسه، لكنه في كل خطوة يقترب من ذنوبه الخاصة.
هذا الأداء يعيدني إلى تلك المناطق الرمادية التي أحبها في السينما، حيث البطل لا يُنقذ العالم بل يكتشف كم هو هشٌّ داخله. لذلك يمكن القول إن ديل تورو لم يمثل، بل عاش الدور كتجربة تطهّر شخصية؛ لا يبحث عن النهاية، بل عن نوعٍ من التوازن بين الوعي والخيبة.

ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل أن فيلم Reptile يبالغ أحياناً في ثقله الإيقاعي. البنية السردية تكاد تلتف على نفسها في المنتصف، كأنها تفقد الدافع قليلاً قبل أن تستعيده في الفصل الأخير.
هنا، أعتقد أننا كنا بحاجة إلى خيط توتّرٍ أكثر إحكاماً، وإلى مفاجأةٍ تنكسر داخل المشاهد لا خارجه. ومع أن هذا البطء مقصود – فالفيلم يعتمد أسلوب الـ slow-burn بوضوح – إلا أن طول بعض اللقطات كان يمكن أن يُستبدل بذكاءٍ بصري أكبر، كما فعل فيلنوف في Sicario حين استخدم الإيقاع البطيء لبناء الخطر لا للتأمل فقط. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذا البطء نفسه يمنح الفيلم طابعاً خاصاً، يليق بعالم يتآكل فيه المعنى تدريجياً.
الحس السينمائي في فيلم Reptile كان يعمل كعدسة أخلاقية أكثر منها فنية، فاستخدام الضوء من نصف الوجه، اللقطات الثابتة التي تقطعها نظرات حائرة، والموسيقى التي تتوقف قبل ذروتها، كلّها عناصر تخلق توتراً أخلاقياً درامياً . لا نعرف من الصادق، لكننا نعرف أن الجميع مذنبون.
تلك الرمادية التي تحكم الفيلم هي ما يميّزه عن كثير من أفلام الجريمة الحديثة التي تعتمد على الصدمة أو الغموض المصطنع. فــ Reptile أعتقد أنه أكثر نضجاً، لأنه لا يريد أن يفاجئك، بل أن يضعك في موضع القاضي الذي لا يملك حكماً جاهزاً.
من الناحية الإخراجية، المثير أن سينغر يختار اللقطات وكأنه يرسم لوحةً من الشكوك: الكادر دائمًا متوازن ظاهرياً، لكنه يترك فراغاً في زاوية ما، كأن هناك سراً يختبئ خارج الإطار. هذا الوعي بالمكان يذكّرني بأعمال روجر ديكنز في طريقة تعامله مع الضوء ككائنٍ حي. لا توجد إضاءة واقعية أو تجميلية، بل “إضاءة مريضة”، إن صح التعبير، تُظهر أن العالم فقد توازنه البصري والأخلاقي معاً. فالمشهد الداخلي يبدو كأنه غرفة عمليات للضمير، كل شيء فيها محايد لكنه ينزف من الداخل.
وربما هنا تكمن خصوصية فيلم Reptile . فبينما تسعى معظم أفلام الجريمة إلى اكتشاف الحقيقة، يسعى Reptile إلى تفكيك رغبتنا في معرفتها.
ماذا لو كانت الحقيقة ليست ما نبحث عنه بل ما نخاف أن نراه؟ هذا السؤال يتسلل من بين طبقات الصورة ويترك أثره بعد المشاهدة. نحن لا نغادر الفيلم بخاتمة، بل بشعورٍ غامض أننا نحن أيضاً جزء من منظومة الكذب ذاتها. كمخرج، أرى أن هذه النقطة تُحسب لصالح سينغر، لأنه لم يقدّم سرداً مغلقاً بل تجربة مفتوحة على التأمل الأخلاقي.
ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن البناء السردي يعاني أحياناً من فقدان الوزن بين الحكاية والرمز. أراد الفيلم أن يكون عن الفساد المؤسسي والضمير الإنساني معاً، لكن المزج بينهما لم يكن متكافئاً دائماً. بعض الشخصيات تُركت في الظل دون اكتمال، وبعض الحوارات وقعت في التفسير بدل التلميح.
كمشاهد، تمنيت لو أن الفيلم منحنا لحظات أكثر إنسانية وسط هذا الكم من الشكوك؛ لحظة صدق بسيطة توازن ثقل العالم الرمزي. ولكن ربما هذا القصد تحديداً: أن يذكّرك المخرج بأن هذا العالم لا يمنح لحظات صدق إلا عرضاً، ثم يبتلعها بصمته من جديد.

ما يجعل Reptile عملاً يستحق الاحترام هو أنه لا يغازل الجمهور. ولكن يطلب منهم أن يفكروا، لا أن يُصفّقوا. هناك شجاعة في هذا الموقف، خصوصاً في زمنٍ تميل فيه السينما الأميركية إلى إرضاء المزاج السريع والتفسير الفوري. هنا، كل شيء غامض بقدر محسوب، وكل تفصيل محمّل بدلالة. إنه فيلم لا يبحث عن الإعجاب، بل عن أثرٍ طويل المدى. تماماً كما يحدث في أفلام كوبريك المتأخرة، حين يتركك المشهد الأخير في مواجهة نفسك لا في مواجهة البطل.
ربما لهذا السبب لم يلقَ الفيلم إجماعاً نقدياً، فالجمهور الذي ينتظر الإثارة المباشرة سيجده متثاقل الخطى، بينما من يبحث عن السينما كمرآة للذات سيجد فيه مادة خصبة للتأمل. من جهتي، أراه تجربة صادقة حتى في ارتباكها، وجميلة حتى في أخطائها. لأنها ببساطة لا تتجمّل.
في النهاية، لا أتعامل مع فيلم Reptile كقصة، بل كاختبار بصري للفكرة القديمة التي تراود كل فنان: هل يمكن للفن أن يطهّرنا من قذارة الواقع؟ أم أنه مجرد طريقة أكثر أناقة لتذكيرنا بها؟
ربما لا توجد إجابة، لكن الفيلم يجعل السؤال نفسه أجمل. فبين الظل والنور، بين القناع والوجه، بين الجريمة والضمير، هناك دائماً لحظة قصيرة يبدّل فيها الإنسان جلده — وربما، في تلك اللحظة بالذات، تبدأ السينما.
رابط إعلان الفيلم








