هناك ممثلات لا يُمثّلن الشخصية، بل يُولدنها من داخل أجسادهن، كأنها نبض إضافي في القلب أو فكرة تسللت إلى عظامهن. تشارلي ميرفي في مسلسل هوس من هذا النوع النادر. لم تكن تؤدي دور “آنا” بقدر ما كانت تُعيد تعريف معنى الرغبة والذنب والافتتان. المسلسل في ظاهره حكاية ممنوعة بين أب ٍ وابن ٍ وامرأة واحدة، لكنه في جوهره تأمل في الهوس البشري عندما يتحول من لذّة إلى جحيم ناعم. ومنذ المشهد الأول حين تلتقي عينا ميرفي بعيني ريتشارد أرميتاج ندرك أننا أمام شرارة لا تُطفأ وأمام حريق لا يبدأ من الخارج بل من الداخل.

ما يثير الإعجاب في أداء تشارلي هو هذا التوازن الغامض بين الوعي والاندفاع. إنها تعرف تماما ً ما تفعل، لكنها تفعله وكأنها لا تعرف. تلك المفارقة التي تُربك المشاهد وتجعله يتورط معها نفسياً.

لا تُقدم “آنا” كامرأة لعوب أو ضحية، بل ككيان يتصارع مع ذاته؛ امرأة تُدرك أن جسدها بوابة مفتوحة على خطر، لكنها لا تملك إلا أن تعبرها.

ميرفي تمتلك حضوراً نادراً، نوعاً من الصمت المتكلم، حين تنظر تشعر أن نظرتها ليست إلى الآخر بل إلى مرآتها الداخلية. وكأنها طوال الوقت تراقب نفسها من الخارج، تدينها وتفتن بها في الوقت نفسه.

في مشاهدها مع ويليام لا نرى مجرد علاقة محرمة، بل اشتباكا ً بين سلطتين: سلطة الخبرة وسلطة الجاذبية. ميرفي تمنح آنا قوة ناعمة، لا تستعطف ولا تستسلم. بل تخلق حالة إغواء فكري أكثر منه جسدي، وكأنها تقول للرجل: “أنا مرآتك ولست لعبتك”. هذا العمق هو ما يجعل الأداء متفرداً.

مثلا هناك لحظات صمت طويلة لا تقول فيها شيئاً، لكنها تقول كل شيء – الخوف، الرغبة، الندم، التحدي. في تلك اللحظات يُصبح التمثيل عند ميرفي ضرباً من الجنون غير الظاهر.

من وجهة نظري كمخرج، كانت الكاميرا تتآمر معها لا عليها. كل لقطة قريبة لوجهها تحمل قلقا ً غير مصرح به. حركة شفتيها، انقباضة عينها، تردد النفس قبل الكلمة، كلها تفاصيل تشبه الموسيقى الصامتة التي لا يسمعها إلا من يتأمل جيداً. ميرفي تعرف أن التمثيل الحقيقي ليس في الصراخ بل في الارتجاف الهادئ الذي يسبق الانهيار. حتى حين تتكلم، لا تُطلق كلماتها في الهواء، بل تزرعها في الفراغ كأنها تخشى أن تعود لترتطم بها.

ما يعجبني أكثر هو أنها لا تحاول تبرير شخصيتها، لا تطلب من الجمهور التعاطف، وهذا نادر. إنها تتركك في منطقة رمادية، تكرهها وتحبها في الوقت ذاته، تتمنى لها النجاة وتريد أن تراها تسقط. وهذا هو الذكاء الحقيقي في الأداء: أن تُحدث فيك تناقضًا شعوريًا دائمًا.

في رأيي، لم يكن “هوس” قصة حب ممنوعة بقدر ما كان قصة عن العزلة الإنسانية، عن ذلك الفراغ الذي يجعلنا نبحث عن انعكاسنا في الآخر حتى لو كان هذا الآخر خطأً أخلاقيا ً فادحاً.

ميرفي جعلت من “آنا” مختبراً لهذا الفراغ و لكل ما يكمن تحت جلد الرغبة من هشاشة وخوف واحتياج. هناك لحظة في منتصف المسلسل — لحظة صغيرة لكنها قاسية — تنظر فيها آنا إلى المرآة وتبتسم ابتسامة نصفها ندم ونصفها انتصار. في تلك اللحظة فهمتُ الشخصية أكثر مما فسّرتها الحوارات كلّها.

ريتشارد أرميتاج كان رائعًا في انكساراته، لكن ميرفي سرقت الضوء من كل من حولها. أداؤها يذكّرني بالممثلات اللاتي يخلقن من اللقطة القصيرة فيلما ً كاملاً، لأنها لا تؤدي فقط، بل تفكر أمام الكاميرا. تفكر بجسدها، بعينيها، ببطء تنفسها. وهذا ما يجعل حضورها مخيفًا وجميلاً في آن.

من الناحية الإخراجية، العمل يغامر بتصوير العلاقة من منظور الحسّ لا الجسد، من منظور الهوس الداخلي لا المشهد الخارجي. كل لقطة بينهما تشبه مرآة مكسورة؛ ترى نفسك فيها لكنك لا تعرف إن كنت ما زلت أنت. وهنا تكمن عبقرية المسلسل. ليس في مشاهد الجرأة، بل في الصمت الذي يليها. في الطريقة التي يعود فيها الاثنان إلى العالم بعد كل لقاء وكأن شيئا ً انكسر في الزمن.

تشارلي ميرفي استطاعت أن تجعل “الهوس” يبدو أكثر من مجرد انفعال، بل ظاهرة وجودية: كيف يمكن للشغف أن يعمي البصيرة ويعيد ترتيب أولوياتنا، وكيف يمكن للحب أن يكون أحيانا ً أداة تدمير ناعمة. في أدائها نرى امرأة لا تخاف من الحقيقة، حتى وإن كانت مؤلمة. امرأة لا تبحث عن العذر بل عن المعنى، ولو على حساب نفسها.

إن ما فعلته ميرفي في “هوس” ليس أداءً بل إقامة داخل الحريق. تمشي على الحافة بين السيطرة والانهيار، دون أن تسقط. وربما لهذا السبب حين تنتهي الحلقات، لا تغادرنا الشخصية. تبقى معلّقة في ذاكرتنا، مثل لحنٍ لم يُكتمل بعد.

كمخرج، أرى أن هذا هو ذروة النجاح في الدراما: أن تترك أثراً لا يُمحى و أن تفتح سؤالاً لا إجابة له.

ربما لم يكن “هوس” المسلسل المثالي لكنه بالتأكيد التجربة التي أعادت تعريف حضور تشارلي ميرفي كممثلة تمتلك جاذبية فكرية قبل أن تكون جسدية.

 إنها لا تُغري بالكلمات أو الجسد، بل بالحقيقة والحقيقة دائمًا هي أخطر أنواع الإغواء.

أنمار السيد