لماذا تنتصر الدراما الأمريكية بالعمق بينما نكتفي نحن بالسطح الجميل
هناك سؤال يتكرر في أذهان كثيرين ممن يتابعون الدراما العالمية لماذا تبدو الشخصيات في الأعمال الأمريكية أو الأوروبية حقيقية ومؤثرة إلى هذا الحد بينما تبدو في كثير من الدراما العربية مصنوعة تتحدث بلسان الكاتب أكثر مما تتنفس من داخلها.
لقد تحسنت الصورة وتقدمت الكاميرات وازدهرت الإضاءة والمؤثرات وأصبح المشهد العربي قادرا ًعلى مجاراة المشهد الغربي تقنيا ً ولكن شيئا ًما .. ما زال ناقصا ً شيئا ًلا تلتقطه العدسات ولا تصنعه الميزانيات، ما زال ينقصنا الروح ذلك العمق الخفي الذي يجعل الشخصية تعيش في الذاكرة بعد أن تغادر الشاشة.
أعتقد أن السر لا يكمن في المال ولا في التكنولوجيا بل في العلاقة بين النص والإخراج بين الكاتب الذي يحفر في النفس والمخرج الذي يملك الجرأة على أن يواجهها، في الدراما الأمريكية الشخصية ليست وسيلة لسرد الأحداث بل هي الحدث نفسه القصة، هناك تُبنى من داخل الإنسان لا من حوله.
انظر إلى شخصية والتر وايت في Breaking Bad أو توني سوبرانو في The Sopranos أو دون دريبر في Mad Men كل واحد من هؤلاء لم يُكتب ليكون بطلا ًأو شريرا ً بل ليكون إنسانا ًكاملا ًبتناقضاته وضعفه ورغبته وخوفه، فالكاتب هناك لا يبحث عن التعاطف بل عن الصدق، والمخرج لا يخاف من تعرية الشخصية حتى آخر قناع.
في المقابل نحن في كثير من أعمالنا ما زلنا نكتب الشخصيات كما لو كانت بيانات تعريف الطبيب الطيب الصحافي الشريف الفتاة البريئة الشرير الغني فنُعطيها وظائف لا دوافع ونغلفها بحوارات ثقيلة تحاول أن تشرح أكثر مما تكشف. فالكاميرا عندنا تلاحق الحدث لكنها لا تقترب من الداخل، فنحن نملك الضوء لكننا نخاف من الظل ونملك التقنية لكننا نفتقد الجرأة على القبح وعلى العُري النفسي، على أن نظهر الشخصية وهي تخطئ وتكذب وتنهار وتتناقض كما نفعل جميعا ً.
في الغرب المخرج يقرأ النص كأنه اعتراف شخصي لا يبحث عن الجمال بل عن الحقيقة في فيلم Joker مثلا ً تود فيليبس لم يقدم أرثر فليك كمجنون أو كضحية بل كمرآة للمدينة كلها، حيث كان الإخراج كأنه دراسة في الألم الاجتماعي وكل لقطة تُظهر كيف يتشكل الشر داخل إنسان حين يُحرم من الاعتراف، اللون الإضاءة زوايا الكاميرا كلها لم تكن زينة بل امتدادا ً لنفسية الشخصية، هكذا تُبنى الدراما العظيمة حين يصبح الشكل في خدمة المضمون لا بديلا ًعنه
غالبا ً نحن العرب نبدأ من الخارج إلى الداخل من الديكور إلى الشخصية من الموسيقى إلى المعنى بينما يبدأ الغربيون من الداخل إلى الخارج لذلك يخرج عمل مثل Succession عن عائلة ثرية فيتحول إلى ملحمة عن السلطة والوراثة والخذلان الإنساني بينما حين نحاول نحن تناول الطبقة الغنية نكتفي بعرض القصور والسيارات والملابس دون أن نرى أي روح تختبئ خلف تلك الواجهة، فالمعضلة ليست أن الكاميرا ضعيفة بل أن الأسئلة ضعيفة، والكاتب هناك يسأل ماذا يحدث في داخل إنسان يملك كل شيء ويفقد نفسه، أما الكاتب العربي فيسأل كيف أجعل الجمهور يحب هذا البطل والفرق بين السؤالين هو الفرق بين الدراما العظيمة والدراما اللطيفة إذا جاز التعبير.
في الدراما الغربية الإخراج لا يخاف من التناقض، فالمشهد الواحد قد يجمع بين الألم والضحك بين الذنب واللذة بين الحنان والعنف والمخرج لا يشرح بل يلمّح ولا يخاف من الصمت ولا يملأ المشهد بالموسيقى ليوجه إحساسك بل يتركك تكتشف الإحساس بنفسك، مثلا ًفي مشهد النهاية من The Godfather لا أحد يخبرك أن مايكل كورليوني تحول إلى شيطان، لا توجد خطبة تشرح بل باب يُغلق ببطء على وجه زوجته، تلك اللقطة وحدها تختصر رحلة إنسان من البراءة إلى الجحيم، وأعتقد أن هذا هو الإخراج الذي يصنع الأثر.
أما في كثير من الأعمال العربية، فالمخرج ما زال أسير النص، يخاف أن يصمت المشهد لأن الجمهور قد يمل، يخاف أن يترك اللقطة تطول لأن القناة تريد إيقاعا ً سريعا ً، يخاف أن يخرج عن الخطوط الأخلاقية لأن الرقابة أو الجمهور قد يهاجمانه، وهكذا يفقد العمل نبضه.
نحن نصنع دراما تحاول إرضاء الجميع لكن الدراما العظيمة لا تُرضي أحداً بل تُزعزع الكل لأنها لا تقدم الوهم بل الحقيقة والحقيقة دائما ً مزعجة.
حين أشاهد عملاً مثل Better Call Saul أشعر أن كل تفصيلة فيه وُلدت من تأمل طويل في الإنسان، مشهد بسيط رجل يجلس وحده في غرفة، لكن خلف ذلك المشهد تتكدس سنوات من الخوف والحيلة والندم، هذه البساطة هي ذروة العمق.
المخرج هناك يثق في الصمت أكثر مما يثق في الكلام، أما نحن فما زلنا نكتب كأن المشاهد لا يفهم، نشرح له كل شيء حتى يفقد القدرة على الاكتشاف.
برأيي أن القضية ليست أننا لا نعرف كيف نصنع الدراما، بل أننا ما زلنا نعتبرها وسيلة للترفيه لا للفهم، فالغرب يتعامل مع الدراما كفن للبحث عن المعنى، ونحن نتعامل معها كمنتج للعرض، لهذا تُخلّد شخصيات مثل والتر وايت وجوكر ومايكل كورليوني ودون دريبر لأنها لم تُكتب لتُعجب الجمهور بل لتواجهه، ونحن ما زلنا نكتب لنبهر وهم يكتبون ليعرّوا.
في النهاية الكاميرا لا تخلق العمق، النص هو الذي يخلقه والمخرج هو من يجرؤ على الغوص فيه، والصورة الجميلة يمكن أن تخدع لكن الشخصية الصادقة لا تخطئ طريقها إلى القلب، وعندما نصل إلى مرحلة نكتب فيها شخصياتنا لا كما يجب أن تكون بل كما هي فعلا ً، حينها فقط يمكن أن تنافس الدراما العربية العالم، لا بالضوء بل بالظل أيضا ً لأن العمق لا يصنعه الضوء بل الظل الذي يحتضنه.
أنمار السيد








