تقنيات الأداء السينمائي المفقودة: ما يبحث عنه المخرجون المحترفون فعلاً
“التمثيل ليس ما تقوله الشخصية، بل ما تُخفيه وهي تقول.”
في عصر تتكاثر فيه “كورسات التمثيل” كما تتكاثر المسارح الافتراضية على الشاشات الصغيرة، يغيب عن كثير من المدربين ما يُسمّى حقا ً فن التمثيل الحديث.
يُعاد تدوير المفاهيم ذاتها التي وُلدت قبل نصف قرن، ويُلقّن الطلاب تمارين الصوت والجسد وكأن الكاميرا ما زالت شاشة بيضاء تحتاج ملء الفراغ بالصراخ.
لكن السينما تغيّرت، والممثل تغيّر معها، وما يطلبه المخرجون المحترفون اليوم ليس أكثر تمثيلاً… بل أقل تمثيلاً وأكثر صدقاً.
في هذا الفراغ الذي تركته “دورات التمثيل” السطحية، و“تجارب الأداء” التي تُباع على أنها اكتشاف للموهبة، تختفي المهارات الحقيقية التي تصنع ممثلًا يُمكن الوثوق بعدسته.
هذه هي التقنيات المفقودة… التي لم تعد تُدرّس، لكنها تبقى معيارًا لكل من يريد أن يتقن تعلم التمثيل السينمائي لا مجرد التواجد في مشهد.
الأداء الصامت: حيث يتحدث الصدق دون صوت
هناك لحظة في كل مشهد لا تُكتب في النص… لحظة الصمت التي تقول كل شيء.
في فن التمثيل الحديث، يُعرف هذا بـ Subtext — ما يدور في داخل الشخصية بينما هي تنطق بشيء آخر.
الكثير من “دورات التمثيل” تكتفي بتدريب الممثل على الإلقاء، على التفاعل مع الحوار، لكنها نادراً ما تدرّبه على ما بين السطور، على ما لا يُقال.
حين يلتقط المخرج تلك النظرة الصغيرة قبل الكلمة، أو الارتباك الخفيف قبل الجواب، فهو لا يرى ممثلاً بارعاً… بل إنساناً حقيقياً يعيش في الصورة.
هذه المسافة بين الفعل والفكر هي ما يجعل الأداء السينمائي فنا ً قائماً بذاته، وليست مجرد نسخة مصوّرة من المسرح.
في أحد تدريباتي لممثل شاب، قلت له: “لا تنطق الجملة… فكّر بها أولاً”.
ففي السينما، الفكرة تصل قبل الكلمة، والصدق يسبق الصوت.
ذلك هو التدريب الذي يفتقده معظم “كورسات التمثيل” اليوم، حيث يُختزل الفن في الشكل بدل الجوهر.
خذ مثلاً قلّما يتحدث أحد عن العلاقة بين الممثل والمونتير، رغم أنها علاقة مصيرية في تقنيات الأداء السينمائي.
الإيقاع المقطوع — ذلك التوقف المفاجئ أو الانتقال غير المتوقع بين حالتين — هو ما يمنح المشهد نبضه الحقيقي في غرفة المونتاج.
الممثل الذي يفهم المونتاج، يعرف متى يترك فراغا ً في الجملة ليملأه الصمت، ومتى يقطع الإحساس قبل الكلمة ليمنح اللقطة قوة في القطع التالي.
في المقابل، معظم “دورات التمثيل” لا تتطرق إطلاقاً لهذا البعد؛
يتم تدريب الممثل على الأداء المتواصل، وكأن الكاميرا تسجّل مشهداً مسرحياً واحداً من دون مونتاج.
لكن المخرج المحترف يبحث عن ممثل يدرك أن “الكاميرا لا تُصوّر الزمن كما هو، بل تعيد خلقه”،
وأن كل نظرة أو تنهيدة أو انقطاع يمكن أن تُصبح جسراً بين لقطتين في يد المونتير.
إن إتقان هذه المهارة يرفع الممثل من مستوى “المؤدي” إلى مستوى “الشريك في صناعة الصورة”.
وهذا بالضبط ما يجب أن يُدرّس في أي دورة تمثيل متخصصة في الأداء السينمائي الحديث: كيف تفكر الكاميرا، لا فقط كيف تواجهها.
بناء الشخصية من خلفية الكواليس
أغلب الممثلين يبدأون من النص. القلة فقط يبدأون من ما قبل النص.
الممثل الذي يعي فن التمثيل الحديث لا ينتظر المشهد ليكتشف الشخصية، بل يخلق لها حياة خفية قبل أن تظهر.
يسأل: ماذا كانت تفعل هذه الشخصية قبل دخول اللقطة؟ ما الذي تخافه؟ ماذا تحاول إخفاءه عن الآخرين؟
في السينما، الشخصية لا تُبنى بالكلمات، بل بالتفاصيل الصغيرة التي لا تُقال.
تلك الخلفية الخفية — التي لا يراها الجمهور لكنها تلوّن كل نظرة وكل نفس — هي ما يجعل الدور حقيقياً.
لكن كثيراً من “كورسات التمثيل” تختصر هذه الرحلة في حفظ النص أو تمرين الإحساس اللحظي، فيتحول الممثل إلى آلة ردّ فعل، لا إنسان من لحم ودم.

حين أعمل مع ممثل أمام الكاميرا، أطلب منه أن يملأ فراغ اللقطة بما عاشته الشخصية في غيابها.
فالكاميرا لا تهتم بالمشهد فقط، بل بما بين المشاهد.
ومن هنا، يولد الأداء السينمائي الحقيقي — من وعي الممثل بتاريخ الشخصية الذي لا يُقال على الشاشة.
في النهاية، لا يبحث المخرج المحترف عن ممثل يحفظ المشاعر، بل عن إنسان يُصدّقها.
كل دورة تمثيل أو كورسات التمثيل لا تضع هذا المبدأ في جوهرها، ستظل تدور في فلك الأداء القديم: التكرار، الصوت العالي، والتعبير الخارجي.
أما فن التمثيل الحديث فهو بحث عن الإنسان المفقود خلف كل دور،
عن ذلك الارتباك الذي لا يمكن تدريسه، عن تلك اللحظة التي ينسى فيها الممثل أنه ممثل.
الكاميرا لا تكافئ من يتقن البكاء، بل من يفهم لماذا بكى.
وكل ما نحتاجه اليوم هو إعادة بناء “إعداد الممثل” على أساس جديد:
أن يتعلم كيف يكون، لا كيف يبدو.
حين يصل الممثل إلى تلك النقطة، لن يبحث عن تقنيات الأداء السينمائي فحسب،
بل سيبحث عن ذاته في كل لقطة…
وهناك فقط، يبدأ الفن.
المخرج : أنمار السيد








